إضاءة نقدية

مالك القلاف: “ثانوية النسيم ” جهد في الإنتاج والإخراج، وثغرات كان يمكن تفاديها!

مالك القلاف ★

يؤمن الروسي (فيزفولد مايرهولد) أن المنهج (الشَرَطي) للتمثيل، يكمن في تسويغ الطاقة الشعورية الكامنة في الممثل، ووضعها ضمن إطار ما يسمى بالتقمص، حين إدراك الشخصية، وهذا ما يخالف فيه (مايرهولد) معلمه الأول (ستانسلافسكي) بوصفه رائداً لمنهج (المعايشة)، حيث يُصِرُّ على التماهي التام مع الشخصية المناطة للممثل دون حياد! وربما يكمن الفرق الأشد وطأة بينهما في اختزال البنية الإبداعية لدى الممثل، وتكييفها ضمن نطاق الحواس البشرية، فنجد أن مايرهولد مثلاً يحرص على أن يتعلم الممثل استخدام عينيه أثناء التمثيل، تحت ما يسميه (Gaze gestures) أو إيماءات التحديق البصري، على اعتبار أنها مهارة يمكن اكتسابها بالتمرين، خلافاً لستانسلافسكي، الذي يجد أن التمثيل بالعين هِبة ربانية لا يمكن تعلُّمها، أو اكتسابها على الإطلاق!

ملكة إبداعية
ليس مجالنا هنا إثبات من كان على صواب بينهما، ومن كان على خطأ، خصوصاً إذا ما عرفنا أن كليهما يتفقان تماماً أن قلة قليلة نادرة من الممثلين، يملكون هذه المَلَكة الإبداعية، سواء كانت موهبة ربانية، أم اكتساباً معرفياً من خلال تمارين معينة! لكن المتلقي القناص، سيستمتع حتماً وبشكل كبير جداً حين يرى ممثلاً يستخدم تقنية (Gaze gestures) أثناء أدائه وتجسيده لشخصية ما.
لعلني أذكر كل ذلك كديباجة للدخول إلى موضوع هذه المقالة، التي أكتبها بعد أن شاهدت المسلسل السعودي (ثانوية النسيم) على منصة شاهد، والذي جاء على شكل (season) بثمان حلقات متسلسلات من إخراج المخرج السعودي (عبدالرحمن الجندل) ومن بطولة الفنان السعودي (خالد صقر)، ومجموعة من الشباب السعوديين ذوي الموهبة.

جهد واضح.
بشكل عام المسلسل لا يخلو من الكثير من الهفوات خصوصاً على مستوى النص والتركيبة الدرامية، حيث انتهى وكأنه إعلان إرشادي توعوي ومباشر! وأيضاً على صعيد الإخراج، حيث بدا الجندل مرتبكاً أمام الثغرات، التي كان ينبغي له أن يجد لها حلاً إخراجياً بطريقة إبداعية، لكنه اقتصر على اللجوء إلى البنية السائدة، وبقالب شبه كلاسيكي! لا يمكن إنكار الجهد الواضح في الإنتاج، وأيضاً في الرؤية الإخراجية بشكل عام، كما في الآلية الإبداعية للتصوير والزوايا الاحترافية وغير النمطية، التي اعتمدها المخرج في كثير من مشاهد المسلسل، لكن الألوان المستخدمة، والمناخ العام كانا يعطيان انطباعاً أن المسلسل يحكي قصة في التسعينيات من القرن الماضي! وهذا ما لم يكن مستساغاً بطبيعة الحال.

هارموني
القوة العظمى في المسلسل جاءت لحساب التمثيل دون منازع، وتحديداً في الجانب الذكوري، أما في الجانب النسائي، فقد تميَّزت الفنانة (ريم الحبيب) فقط دون غيرها! لا يمكن للمشاهد أن يتفرج على المسلسل دون أن يدهشه ذلك الهارموني الإبداعي بين أولئك الشباب المبتدئين، والكيمياء الانفعالية في طريقة تعاطيهم مع الكاميرا، أثناء تجسيد المَشاهد الجماعية، وأذكر بالأخص الممثل الشاب (نايف البحر)، مع الممثل (أحمد الكعبي)، والفنان (نايف الظفيري)، رغم قصر دوره، وحتماً لا يمكن أن ننسى الفنان الأسمر (مهند الصالح).
حالة حساسة.
المفاجأة الكبرى كانت مع بطل المسلسل الفنان (خالد صقر)، والذي كتبتُ ديباجتي هنا في هذه المقالة لأدخل إلى عوالمه الإبداعية، في تجسيده لهذا الدور، ولربما ينبغي أن أوضح أولاً أن هذا النمط من الشخصيات ذات النزعة المثالية، هو نمط رتيب في الغالب، وغير مستساغ لدى المُشاهد، لم يعتد المتلقي أن يتكيف مع هذه المثالية المنفرة، التي غالباً ما تبتعد عن الصورة الواقعية والخالية من الأخطاء! ولكن الفنان (خالد صقر)، كان أذكى من أن يقع في هذه الرتابة، فأدخل نفسه في حالة شديدة الحساسية، متكئاً على أدواته الإبداعية، بحيث يمكنه الابتعاد عن تلك المثالية المفرطة، وغير المحببة من خلال تقنية (Gaze gestures) وببراعة متناهية، لقد راهن على نفسه وعلى تلك التقنية، التي لطالما حاول الكثيرون استخدامها فخذلتهم، لأنها ليست تقنية سهلة على الإطلاق!


كان (صقر) في تجسيده لشخصية الأستاذ عبدالله في المسلسل، متواطئاً مع ذاكرته الانفعالية بشكل صارخ، فاستطاع أن يُجَسِّد لنا تحولات الشخصية ببنيتها المركبة، وبشكل ملفت فقط من خلال عينيه، عينيه التي استطاع من خلالهما أن يبتعد عن جو المثالية، ليضع نفسه في خانة مختلفة تماماً، لم يكن مثالياً بقدر ما كان غامضاً وفي جعبته ما هو غير متوقع! ولربما كان المخرج متنبهاً تماماً لذلك الإعجاز الإبداعي، الذي كان يطرحه الفنان خالد صقر في أدائه مما جعله في كثير من المَشاهد يُرَكِّز على تقاسيم وجهه، وانفلاتات عينيه، والتشظي الانفعالي، الذي كان يخرج منهما دون أن ينبس ببنت شفة، دون حوار، دون أدنى نَفَس، من الصعب جداً أن يُفلح ممثل في الوصول إلى هذه الحالة، ولربما أستطيع القول : إن الفنان (خالد صقر) كان العلامة الفارقة، والرهان الأقوى، لتجسيد هذه الحالة تحديداً دون غيره.


★مؤلف وناقد مسرحي-السعودية.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى